أرجوك يا كابتن محمد، مكانة المحلة مش هنا، المحلة كان فيها عتاولة. الأرض دي لعب عليها أبطال، إحنا كنا لما نوصل (المركز) التالت، كنا بنبقى زعلانين، صدقني!
— مشجع غزل المحلة لمحمد جابر لاعب الفريق.
في المقطع أعلاه، يحاول مشجع عجوز أن يخبر لاعب الفريق بقيمة القميص الذي يرتديه، يخبره عن تاريخ لا يعرفه، بدا صادقًا للغاية، حتى وإن خانته ذاكرته وبالغ في بعض التعبيرات.
هذا المشجع وغيره ممن اختاروا الانتماء لفريق مدينتهم ربما أصبحوا آخر ما تمتلكه أندية الأقاليم. لكن قبل عقدين فحسب، امتلكت أقاليم مصر لاعبين أفذاذًا، لكن حكاياتهم ظلت مجرد حكايات رومانسية تتناقلها الأجيال شفهيًا لأنها بطبيعة الحال لم تكتب بواسطة قطبي القاهرة.
في عصر ما قبل الشركات سمح الدوري المصري بصورة ما لأندية ما دون القاهرة الكبرى في الوجود. وكان نادي جمهورية شبين أحد هذه الأندية، إذ مثَّل محافظة المنوفية في الدوري الممتاز لخمسة مواسم متتالية، بداية من عام 1992/1993 وحتى 1996/1997.
كان عصام شعبان الذي تمتلك كل العذر إن لم تسمع اسمه من قبل بطلاً لهذه المرحلة، إذ حمى المهاجم الممتاز فريقه من الهبوط في مرات، وقاده لمراكز متقدمة في أخرى، لكن اسمه ظل مرتبطاً، للمفارقة، بالأهلي والزمالك اللذين لم يلعب لهما قط.
كانت بداية شعبان عادية جدًا، إذ خاض تجربتين متوسطتين مع غزل شبين والترسانة قبل أن يستقر في نادي الجمهورية عام 1992 الذي صعد إلى الممتاز في العام نفسه. وقتئذ بلغ عقد اللاعب الذي سينافس على ترتيب هدافي الدوري عشرة آلاف جنيه مصري.
جاء التعارف الحقيقي بين اللاعب المغمور وجماهير كرة القدم المصرية موسم 1993/1994، إذ سجل عشرة أهداف أنقذت فريقه من الهبوط لدوري الدرجة الثانية، لكن الأهم أن ثلاثة منها كانت ضد قطبي الكرة المصرية الأهلي والزمالك.
بعد ثنائيته في مرمى الأهلي أثناء خسارة فريقه بثلاثية في الجولة العاشرة، دخل شعبان دائرة اهتمام الزمالك، بقيادة محمود الجوهري الذي رغب في ضم اللاعب للقلعة البيضاء، لكن الجولة ما قبل الأخيرة حملت خبرًا سارًا وغير سار للاعب الذي ربما ظن أن طاقة القدر فُتحت له.
كان اللاعب قد أنهى اتفاقه مع الزمالك، وتلقى مبلغًا ماليًا بعد جلسة مع حمادة إمام قبل انتهاء الدوري. فما الذي حال دون انتقاله للزمالك؟
يقول اللاعب الذي مثّل منتخب مصر أثناء قيادة طه إسماعيل، إن نادي جمهورية شبين رفض الاستغناء عنه للزمالك، وانتابته حالة خوف من خوض هذه التجربة بخاصة أنه أهلاوي.
لكن اللاعب نفسه قدم رواية مختلفة، لمح من خلالها إلى أن هدفه، الذي أضاع الدوري على الزمالك ومنحه للأهلي، كان سببًا مباشرًا في إقالة الجوهري، بالتالي سببًا في إنهاء رغبة مسؤولي القلعة البيضاء في التعاقد معه.
ظل عصام شعبان يقدم مستويات جيدة مع فريق بإمكانات محدودة، حتى انتهت قصتهما معًا عام 1998، ليتحول إلى رجل عادي جدًا في نظر الجميع، وأسطورة لأبناء شبين في محافظة المنوفية.
في إحدى مباريات الناشئين يفلت لاعب صغير الحجم من الرقابة، يراوغ مدافعًا تلو الآخر، ليحرز هدفًا لفريقه بالرمق الأخير من عمر المباراة. وفجأة يظهر عم خميس كبير المشجعين، حاملًا فتى يدعى إبراهيم مرددًا: مارادونا الجديد أهو. منذ هذه اللحظة ارتبط اسم إبراهيم المصري بمارادونا، تمامًا مثلما ارتبط اسمه بالنادي المصري البورسعيدي.
قبل هذا المشهد الذي لا نعلم تمامًا إذا ما كان حقيقيًا أو مختلقًا، كان إبراهيم المصري يلعب كرة القدم كأقرانه من الأطفال على شواطئ بورسعيد، قبل أن يقنع أصدقاؤه أحد مدربي النادي المصري بضمه لمدرسة الموهوبين.
انتقلتُ للمصري بالصدفة إذ أراد والدي في البداية أن يتم تعييني في الشركة التي يعمل بها، إذ كنا نعاني من حالة مادية صعبة، لكنه وافق في النهاية حين رأى إيمان الجميع بموهبتي.
— إبراهيم المصري
هناك أدرك الجميع أنهم أمام موهبة مختلفة، حتى ولو لم يكن أعسر كمارادونا، لكنه يظل خليفة مثاليًا لمسعد نور نجم المدينة الذي منحه قميصه والرقم 10 بمباراة اعتزاله، فيما تكفل بعض التجار بمنحه راتبًا ثانويًا كي يستطيع إعالة أسرته.
أول راتب حصلت عليه كان 150 جنيهًا، إضافة لراتب النادي. وقتئذ كان راتب والدي تسعون جنيهًا، كانت بمثابة انفراجة للأسرة.
— إبراهيم المصري
كان والد إبراهيم مشجعًا متعصبًا للنادي المصري، وعلى رغم ضيق الحال، رفض أن ينتقل نجله للنادي الأهلي وهو في سن السادسة عشرة، ليبدأ مسيرته مع الفريق الأول بالنادي المصري عام 1988 وهو في سن السابعة عشرة فحسب.
ندرة المقاطع المتاحة لمارادونا بورسعيد، قد تجعلنا نتشكك في حجم موهبته بالطبع، لكن مما يجعل هذه القصص منطقية على الأقل هو سجل اللاعب الدولي اللافت، إذ شارك في كل منتخبات الناشئين والشباب، مثل منتخب مصر في أولمبياد برشلونة عام 1992، إضافة لاشتراكه بكأس الأمم الأفريقية في مناسبتين بعامي 1994 و1996.
لعل أبرز ما حققه «مارادونا» مع ناديه خلال مسيرة امتدت لأكثر من عشرة أعوام كان حصده كأس مصر عام 1998، لكن السؤال المنطقي، لماذا لم ينتقل المصري لأحد القطبين، بخاصة أنه لم يكن قد وقع على عقد حقيقي حتى بلغ ستًا وعشرين عامًا؟
يخبرنا المصري أنه ظل ممتنًا للمدينة التي أخرجته من دائرة الفقر، والأهم، أن شعور الفوز مع فريق مدينته، وخروج الناس للشوارع لتحية اللاعبين بالورد، جعله يشعر بعدم الرغبة في الخروج من منطقة راحته، وحتى وإن وصل عرض الزمالك لاستقطابه إلى مليون جنيه.
ولأنه مارادونا تنتهي القصة بسجنه لمدة عام ونصف العام في 2016 على خلفية صدور حكم نهائي بحقه بالسجن لثلاث سنوات، بعد إحداثه عاهة مستديمة لأحد الأشخاص عام 1999.
عروض من مانشستر يونايتد، باريس سان جيرمان وأياكس. مهلًا، نحن لا نتحدث عن قائمة العروض المقدمة لمو صلاح، لكن لعروض يزعم البعض أنها وضعت أمام لاعب مصري شاب، لكنه فضّل البقاء في بلدية المحلة. قصة هزلية صحيح؟
في التسعينيات، كان لقب مارادونا يطلق على كل مهاري يلعب كرة القدم داخل مصر، من دون النظر إلى وجود شبه حقيقي بين اللاعب ونجم الأرجنتين. الأهم هو أن يستطيع حامل هذا اللقب مراوغة الجميع وسحب الآهات من الجماهير. وهذا ما أتقنه أحمد فاروق، مارادونا المحلة.
بمجرد بلوغه سن السابعة عشرة، كان فاروق قد جذب أنظار أحمد شعراوي المدرب التاريخي لبلدية المحلة، وقتما كان ناشئًا في صفوف سموحة السكندري. وأمام هذه الموهبة الفذة، قرر المدرب القدير أن يراهن بـ7 آلاف جنيه مصري لاستقطاب اللاعب الموهوب الذي ظن أنه القطعة الناقصة في فريقه الذي سيصبح الحصان الأسود للدوري المصري موسم 92/93.
في أول مواسمه استطاع فاروق أن يظهر موهبته الخجولة للجميع، إذ كان الحلقة الأهم في فريق ضم مهاجمًا بحجم أكرم عبدالمجيد الذي سجل أكثر من 60 هدفًا مع البلدية وعرفه الزمالك بعد ذلك للجميع، كما زامل في نفس الفريق ظهيرين نجحا في الاحتراف مثل ياسر رضوان ومحمد عمارة.
دوليًا شارك أحمد فاروق مع منتخب الشباب تحت قيادة هاني مصطفى كما مثل منتخب مصر الأول بعد استدعاء شحتة له. لكنه مع ذلك، ظل حبيسًا لكونه قصة جميلة لم تكتمل.
يعتقد فاروق أن إصابته بالرباط الصليبي في ثاني مواسمه حالت دون انضمامه للنادي الباريسي، فيما قدم أحمد صالح لاعب الزمالك الأسبق رواية مختلفة، إذ أصر أن فاروق كان نجمًا، لكنه لم يرغب يومًا في الخروج من منطقة راحته، لأسباب لم يشرحها لأحد.
رفض فاروق الأهلي مرة والزمالك مرات على رغم رغبة رود كرول في انتدابه، ليظل موهبة البلدية التي لا يعرف عنها سكان القاهرة شيئًا، بينما يؤكد أبناء البلدية أن هذا القصير، كان رأسًا برأس مع حازم إمام.
إذا ما حاولت البحث عن مقاطع لفاروق قد تجد مجموعة صغيرة جدًا من اللقطات، أهداف مميزة، ومراوغات جيدة، لكنها بالطبع ليست كافية.
هنا يشرح لنا فاروق سر تجاهله. لم تكن مباريات البلدية مذاعة، وكان البث المباشر مقتصرًا على المباريات التي يخوضها الفريق مع الأهلي والزمالك. بالتالي، إذا ما لم تلعب للقطبين، فمصيرك هو أن تظل نجمًا وربما أسطورة، لكن على الورق.
تدور الحياة في مصر في فلك القاهرة، هناك توجد معظم الفرص، لذلك ربما كانت كرة القدم آخر الاستثناءات لهذه القاعدة. فبمجرد النظر إلى الأندية المشاركة في الدوري المصري الممتاز، يمكن أن نستنتج بسهولة مركزية كرة القدم المصرية.
هنا، لا يمكن الإشارة للاعب كرة القدم الذي ترك فريق مدينته ورحل صوب أحد أندية الشركات طمعًا في مقابل مادي أكبر بوصفه متهمًا، لسبب بسيط جدًا، وهو أن وصول فريقه للدوري الممتاز حلم صعب ابتداء، في حين يمكن وصف الاستمرار في الدوري نفسه لأكثر من موسم بالمستحيل.
لأن الحقيقة المؤكدة هي أن نظام كرة القدم المصرية لم يعد يسمح حتى لمشجع أندية المحافظات البسيط في خلق حكايات عن أبناء المحافظة الذين حاولوا ولم تسعفهم الظروف، حتى ولو كانت برمتها من وحي خياله.